تمهيد: ألقت جوديث باتلر هذه المحاضرة عام 2010 في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في ذكرى إدوارد سعيد. ليس هذا النص بأي شكل من الأشكال تدوين دقيق وشامل لمحاضرتها، وليس القصد منه قراءته كمقال كتبته جوديث باتلر. هو ببساطة تدوين للمحاضرة، أو أغلبها، كما تصورها المترجم الذي حضرها ثم راجع تسجيل فيديو للمحاضرة استعان به في الترجمة، وأي خطأ يجده القارئ فهو قطعاً خطأ المترجم. سبق نشر هذا النص في مجلة “الثقافة الجديدة”، عدد نوفمبر/تشرين الثاني 2010.
شكراً جزيلاً لكم، ويسرني كثيراً وجودي بينكم اليوم. إنه بمثابة تكريم لي أن تُتاح لي فرصة إلقاء هذه المحاضرة في ذكرى إدوارد سعيد. رغم أنني لم أعرفه شخصياً فقد تبادلنا بعض الرسائل، وعشت في مدار أفكاره ومواقفه السياسية، وما زلت أعيش. نظرتي إليه – ولعلها نظرتنا جميعاً – تتمثل في معرفة معنى أن نعيش عالمنا ونفكر فيه، ونمنح شكلاً عاماً لمواقفنا السياسية.
أتذكر محاولاتي الأولى لفهم آرائه حول الاستشراق، ثم متابعتي لمقالاته الأثيرة والعميقة عن الأوبرا. بشكل عام تأثرت بإصراره الدائم على الالتزام بالمنهج الإنساني، لكن سرعان ما تأثرت مواقفي بأفكاره عن الشرق الأوسط، ذكراه وآماله لفلسطين. ومع اقتراب حياته على نهايتها خرج علينا بأفكار جديدة عن “حل الدولة” و”حل الدولتين”، عن “معنى تعايش قوميتين في دولة” و”آفاق المستقبل”. من بين أفكاره الأخيرة عدّة توقعات في رأيي ربما تعني أن وجود قوميتين في دولة قد يؤدي لوضع حد لمفهوم “القومية”. واليوم أود أن استكشف معكم هذه الفكرة.
بالطبع على المرء أن يتوقف للحظة قبل الخوض في هذه الفكرة، بما أنه من المنطقي أن نعارض الأشكال الصهيونية للقومية، لكن هل نريد أن نعارض فكرة القومية لدى من لم تُبنى لهم دولة بعد؟ الفلسطينيون الذين ما زالوا يسعون لتشكيل دولة للمرة الأولى دون مساندة دولية ملموسة؟ رداً على هذا السؤال الهام، أود أن أقترح أن نحاول أن نفكر للحظة، ليس فقط فيما إذا كانت جميع القوميات شيئاً واحداً، لأننا نعرف أن هذا غير صحيح، لكن أن نطرح سؤال ما المقصود بالأمة؟
أحد الافتراضات الأولى التي ستطرأ على ذهننا هي أن الأمة تجمع الناس في المكان والزمان، تضع لنفسها الحدود التي يمكن تأمينها، ويتوجب تأمينها، ويصاحبها الحُكم الذاتي الديمقراطي والسيادة على الأرض والحق فيها. قليلة هي الأمور الأكثر أهمية بالنسبة لفلسطين من المطالبة بالأرض التي هي من حقها فعلاً، لكن هذا الحق لا يستتبعه بالضرورة معرفة هيئة محددة للدولة/الأمة التي ستظهر.
الحق في المطالبة بالأرض قد يستند إلى التحليل التاريخي لسجل طويل من المصادرات غير القانونية للأراضي، وهي الممارسة المحورية في تأسيس الدولة/الأمة الإسرائيلية. وكما تعرفون جيداً، فإن إسرائيل قد أُنشئت إثر سلسلة من مصادرات الأراضي السابقة على عام 1948، واستمرت حتى 1967، وتستمر إلى الآن مع تمديد قرارات الاستيطان، وبناء وإعادة بناء الجدار، والخطط الإستراتيجية التي تؤدي لتوسيع الحدود بشكل مستمر، مع تغيير أماكن تمركز نقاط التفتيش فجأة من الحين للآخر.
لكن حتى لو بدأنا من فرضية أن الدولة الإسرائيلية ما كانت لتظهر إلى الوجود دون مصادرات الأراضي غير المشروعة والاستيلاء عليها، وهي الفرضية التي أرى أن علينا تبنيها؛ فما زلنا نعود إلى حقيقتين تُلزماننا بطرح السؤال: كيف علينا أن نفهم الأمة الفلسطينية؟ وبأي السبل يمكن إدراك أبعاد هذه الأمة؟
الحقيقة الأولى هي أن فلسطينيي 1948 الذين أُجبروا على الخروج من أرضهم وفقدوا بيوتهم، هم فلسطينيو المنفى، موزعين بالأساس في عدة مواقع، خارج الأرض التي تشكل فلسطين التاريخية. وتاريخ المنفى الفلسطيني يبدأ فعلياً بأحداث 1948. حق العودة لمن نُزعت منهم الأرض والعمل والذين انضموا للشتات الفلسطيني، يبقى أساسياً في أي فهم لفكرة “الدولة الفلسطينية”. من هذا المُنطلق، تُعتبر الأمة مُشتتة جزئياً، وأي مفهوم للدولة، يجب أن يراعي حق من طردوا قسراً من بيوتهم وأراضيهم. من المنطلق التاريخي إذن، فإن أمة فلسطين لا تحدها أي حدود قائمة أو قيد التفاوض؛ مما يعني أن الحقوق والواجبات المفترضة تمتد لما يتجاوز الحدود القائمة، ويعني أيضاً أن الحدود القائمة هي النتيجة الفعلية للمصادرات غير المشروعة للأراضي؛ مما يعني أن قبول هذه الحدود بصفتها حدود “الدولة/الأمة” هو تصديق وإقرار بأن هذه “اللامشروعية” هي العامل المقبول المؤسس للدولة، وهذا يعني أن الدولة ستُبنى على أنقاض الطعن فيما حدث في عام 1948 بسواعد فلسطينيي المنفى.
حق العودة بالنسبة للفلسطيني، قد يعني – كما تعرفون – أشياء كثيرة. اقترح البعض خطط لإعادة التوطين؛ فالإسرائيليون ماهرون للغاية في بناء المستوطنات، فلم لا تتم الاستعانة بشيء من هذه المواهب في بناء البيوت للفلسطينيين على أراضيهم المستحقة! هذه مزحة منّي بالطبع. فكر البعض في التعويضات المالية، والبعض فكروا في أشكال من الاعتراف الدولي والعلني، في الوقت الذي تُواجه فيه جهود من يحيون ذكرى القرى الفلسطينية المُدمرة عام 1948 فيما يُصنف قانوناً، داخل إسرائيل، بصفته يوم الاستقلال الإسرائيلي، تواجه تلك الجهود والأنشطة بالاتهامات بـ “الخيانة”. مسألة الاعتراف العلني بتدمير وسلب الفلسطينيين عام 1948 ليس مجرد مسألة رمزية، رغم أنه قمة الرمزية.
كذلك وكما تعرفون، فإن حق العودة لاقى الدعم من قرارات الأمم المتحدة وما زال متسقاً مع القوانين الدولية التي تؤمِّن حق اللاجئين أو النازحين قسراً عن أوطانهم في العودة. نظراً لأن حق العودة له معانٍ عديدة، وبعضها معانٍ تم التوصل إليها، وياللعجب، من قبل يهود أُخرجوا من ديارهم في إسبانيا قبل أكثر من خمسمائة عام؛ فمن المنطقي القول بأنه لا يحق للمرء أن يؤكد أو ينكر حق العودة، إلى أن يفهم على الأقل أية “نسخة” من هذا الحق هي الخاضعة للنقاش، وإن كانت قضية العودة هذه، دون غيرها، هي تحديداً مشروعة.
على سبيل المثال، عقد مؤتمر دولي عن حق العودة قد يُعتبر أحد سبل مناقشة هذه “النسخ” المتعددة من “حق العودة”، ومن ثم التوصل إلى إجماع على ما قد يعنيه هذا المعنى، وكيف يمكن كفالته، ثم كيف يمكن الوفاء بالالتزامات المترتبة لدى كفالة هذا الحق، بناء على القانون الدولي. لكن ما يحدث أن كثيراً ما نجد في دوائر الرأي العام، على الأقل في الولايات المتحدة، وأغلب الهيئات الإعلامية الغربية المهيمنة، نجد تجاهلاً مبدئياً لهذا الحق، وكأنه يعني أن الفلسطينيين سيدخلون بموجبه فجأة بيوت الإسرائيليين اليهود تمهيداً للاستيلاء على مطابخهم!
حق العودة يجب أن يكون عميقاً وفعالاً في الوقت نفسه، أي أن يستمد آلياته من مبادئ حقوق اللاجئين، وعدم مشروعية عمليات الاستيلاء والاستلاب، مع الخروج بمفهوم جديد لـ “إعادة توزيع الأراضي”. رغم أن هذا الكلام قد يبدو مثالياً أو مستحيلاً، أود الإشارة إلى أن الإسرائيليين يعيدون توزيع الأراضي طوال الوقت. إذن فالسؤال هو: كيف يمكن التدخل وتعديل هذه العملية الخاصة بإعادة التوزيع، بما يخدم حقوق اللاجئين والمطالب المشروعة بالتعويض والإقرار بالحق في العودة؟
يترتب على هذا تحري حل القضية في ظل الفهم التاريخي الصحيح، وهو الأمر الأعقد في الحقيقة. والسبب في زيادة التعقيد، أن تاريخ هذا المكان تحديداً آخذ في التلاشي باستمرار، ودائماً ما يقع فريسة لخطر الاختزال. وعلى حد علمي، فإن أبو مازن قد قرر مؤخراً أن يُنحّي التاريخ جانباً، أن يُنحي المطالب جانباً، في أخر “مفاوضاته” مع الحكومة الإسرائيلية.
الخطو بأية طريقة على طريق المستقبل لن يساعدنا كثيراً إذا أخفق في مقاومة هذا التهديد الدائم باختزال التاريخ والحقائق. إلا أن العديد من “المناهج العملية” لحل القضية الفلسطينية تستند على هذا الاختزال. بالطبع لا تصبح الوقائع “تاريخية” إذا هي تعرضت للاختزال، وإلا، فإن النكبة المستمرة في الحدوث، وهي أساس الحاضر، ينطفئ إلى جانبها نور أية تحركات أو حلول مؤقتة. من ثم يجب النضال من أجل مقاومة اختزال النكبة، هي مقاومة لا غنى عنها في أي تحرك نحو المستقبل، وهو ما يؤدي بنا إلى فرضية أن تدوين التاريخ على جانب، وتحقيق المستقبل على الجانب الآخر، هما وجهان لعملة واحدة.
في الجزء الثاني من كلمتي اليوم، سأحاول أن أفهم من محمود درويش ما هو المستقبل الذي يطرحه إدوارد سعيد، خاصة من خلال آرائه الأخيرة عن “تعايش القوميتين في دولة”. لكن أولاً أسمحوا لي بأن أقترح: بما أن حق فلسطينيو المنفى يقع على المحك خلال أي طرح للأمة الفلسطينية؛ فإننا مُلزمون بإعادة التفكير في فكرة “الدولة الفلسطينية”، إذ لا بديل عن أن تضم من اصطُلح على وصفهم بـ “فلسطينيو المنفى”. هذه الفكرة هي فكرة إدوارد سعيد، وقد أبداها كثيراً. وأنا لا أقصد بكلامي أن حق العودة يعني بالضرورة تحويل أي “شتات” إلى “قومية”، بل أن نشتق من مفهوم “الشتات” قوام وهيئة دولة المستقبل.
على حد فهمي لكلمة “منفى”، فهي تعني النفي جبراً، بشكل غير طوعي أو طوعاً، في ظل المعاناة من أوضاع قاسية. هل علينا أن نأخذ في الاعتبار لدى التفكير في دولة المستقبل مفاهيم الاستلاب والتجريد من الأرض والتهجير؟ وكأننا نرى في حق العودة “ممحاة” تمحي وضع الشتات والمنفى على أن يحل محله ما هو “قومي”؟ فهل هناك في “المنفى” من معاني ما يبقى داخل “القومي”؟ أم يجب أن يبقى ما هو “منفى” عارضاً نفسه بصورة الانتقاد الداخلي لما هو “قومي”؟ بمعنى آخر، إن كان وضع المنفى قد أضاف معانٍ معينة لفكرة “اللاجئ” الذي يعيش على مسافات بعيدة جداً وفي ظل ثقافات مختلفة، وما يصاحب الشتات والتفرق من تحولات، فلنا أن نسأل: كيف للمطالبات السياسية النابعة من وضع “الشتات والمنفى” أن تستمر في تنوير أفكار الدولة/الأمة وانتقادها في الوقت نفسه؟ ما شكل تلك القومية التي تبدأ من منطلقات “حقوق اللاجئين”؟ فضلاً عن ذلك، ونظراً للتفسيرات الإسرائيلية لذلك الحق، أي “قانون العودة” الإسرائيلي، وفكرة دولة إسرائيل ذاتها كملاذ آمن لكل اليهود طبقاً للاجتهادات اليهودية المعاصرة؛ فمن الأهمية بمكان التوصل لفهم لحقوق اللاجئين التي لا يمكنها أن تصبح “تبرير” الحق في تجريد الأفراد من ملكية أراضيهم. من التناقضات الكبرى التي ترتبت على تأسيس دولة إسرائيل، هو تأسيس الدولة على أسس “حق اللاجئين في التماس الملجأ إثر طردهم القسري من أوروبا”، مما أدى بدوره إلى الطرد القسري للفلسطينيين من أراضيهم.
من ثم فالسؤال الذي لنا أن نطرحه: كيف يمكن صياغة حقوق اللاجئين على خلفية وقوع أعمال استلاب وطرد؟ هذه حقوق تخص “أقليات” يفقدون وضعهم كأقليات ويصبحون “بلا دولة” تضمهم. يبدو لي أن ممارسة وإحقاق حقوق اللاجئين غير وارد منطقياً إلا إذا لم يؤد لظهور من هم “بدون دولة”. هذا المعيار الذي ذكرته منذ لحظة من الضروري أن نستعين به لدى وصف وتقييم ما تحمله النكبة من ظلم، وأيضاً أثناء صياغة حق العودة كحق للاجئين، ولفرض تجميد، بلا أجل مسمى، على “قانون العودة”. ففي ظروف يُستغَّل فيها “قانون العودة” كأداة لضمان التفوق الديمغرافي للسكان اليهود، فهو في الوقت نفسه قانون تمييزي بشكل فج وغير عادل.
لنا أن نقول، أنه إلى أن يتحقق اقتران “قانون العودة” بـ “حق العودة”، فمن الواجب إبعاد “قانون العودة”. أو لنقل أنه بما أن قانون العودة مُصمم لتنحية حق العودة جانباً؛ فإن قانون العودة مُستغل بشكل يؤدي لزيادة من هم “بدون” دولة.. وبينما يستند شكلاً على حقوق اللاجئين، فهو في الوقت نفسه ينتهك هذه الحقوق؛ مما يعني أن قانون العودة، وهو المفترض به أن يدعم حقوق اللاجئين، ينكر وينفي حقوق اللاجئين. وإن كان المعنى المجرد هو “نفي” حقوق اللاجئين، فالنتيجة العملية هي زيادة عدد اللاجئين.
حق العودة يعني أيضاً ضمان إعادة التوطين، العملية التي تبدو للكثيرين على أنها “حل الدولة الواحدة”، رغم أن حق العودة له وجهان: إما حل الدولة أو حل الدولتين. ما يهمني التركيز عليه هو خوف من يخشون أن يخسر السكان اليهود تفوقهم الديمغرافي، وأن هذا قد يليه سقوط القومية الإسرائيلية. الافتراض المسبق هنا يتلخص في افتراض أنه لا يمكن الحفاظ على الدولة اليهودية إلا عن طريق الحفاظ على التفوق الديمغرافي، رغم وجود أشكال وأصناف من “اليهودية” تعارض أي طرح من هذا النوع. لكن طبعاً هذه الطوائف اليهودية سيُنظر إليها على أنها معادية لإسرائيل أو حتى “يهود كارهون لأنفسهم”، لكن الحقيقي طبعاً في هذه الأفكار، أنها أفكار “غير صهيونية”.
لكن عندي فكرتان هامتان أريد عرضهما اليوم. الأولى “معيارية”، تتلخص في أنه لا يحق لأي نظام سياسي ديمقراطي أن يعمل على ضمان التفوق الديمغرافي لأي مجموعة دينية أو عرقية داخل الدولة. والفكرة الثانية “استراتيجية”: فقدان التفوق الديمغرافي لليهود الإسرائيليين من شأنه أن يحسن من فرص انتشار الديمقراطية في المنطقة. وهناك فكرة ثالثة طرأت على ذهني فجأة بالمناسبة، وهي فكرة “وصفية”: هناك بالفعل أشكال مؤسفة لتعايش القوميتين داخل الدولة في إسرائيل، وهي تقسيمات “جامدة” بالأساس، نراها في القدس الشرقية، حيث يضطر الفلسطينيون للدفاع عن حقهم في عدم التعرض للاستلاب، من اليمينيين اليهود الذين يتذرعون بحق اليهود المفترض في الأرض، فيطالبون ببيوت وأراضٍ مملوكة لفلسطينيين، منذ أكثر من مائة عام في بعض الأحيان، وفي الأغلب فإن القوانين الإسرائيلية تدعم هؤلاء الأفراد، وتؤمنهم الشرطة الإسرائيلية.
نشهد أشكالاً مؤسفة لتعايش القوميتين على سبيل المثال أيضاً في المستوطنات التي ظهرت في الضفة الغربية، وهي علاقة تبعية اقتصادية، بين سكان المستوطنات والعمال الفلسطينيين. من المثير للسخرية والحزن في الوقت نفسه التفكير في هذه العلاقة التبادلية بين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين كأحد مظاهر “تعايش القوميتين”.
شكل ثالث من الأشكال المؤسفة لتعايش القوميتين، هي الفلسطينيون من الرعايا الإسرائيليين “الاسميين” أو “الجزئيين”، والذين تقيد السياسات القانونية والاجتماعية بشكل متزايد من قدرتهم على العمل والتعليم والحراك الاجتماعي.
بالطبع السعي للحفاظ على التفوق الديمغرافي لا يعني إلا أن “الأغلبية” اليهودية خائفة، وأنه من الضروري الاستمرار في “الاعتداء” العسكري والسياسي والثقافي من أجل الحفاظ على ذلك التوازن لصالح من يرغبون في البقاء بصفة “الأغلبية”.
وتبقى حقيقة أن إسرائيل تُعرِّف نفسها بصفتها أمة يهودية تأُسست على مبادئ السيادة اليهودية، مما يعني أنها ملتزمة بالإبقاء على الفلسطينيين أقلية إلى الأبد. وعندما يزيد عددهم داخل الحدود؛ تتم إدارتهم بالاستعانة بالمزيد من جهود الاحتواء والطرد والاستلاب.
في بعض المناسبات يناقش رجال السياسة الإسرائيليون على الملأ فكرة طرد الفلسطينيين بالكامل، لكن لنكن على يقين من أن أي تحرك من هذا النوع يعني أن تبقى إسرائيل في حالة حرب دائمة على حدودها، مع هؤلاء الذي طُردوا، ويجب أن يبقوا مطرودين، من أرضهم. من ثم فمزاعم إسرائيل الخاصة بالسيادة تستند إلى استراتيجيات دائمة، ومتجددة، تتلخص في الطرد والاحتواء، وهذه هي العلاقة القائمة مع الفلسطينيين. لا يوجد في استراتيجية “الطرد الكامل” ما يتغلب على حتمية الجوار والاشتباك الدائمين بين الطارد والمطرود، فيستمر ببساطة النزاع في قالب آخر.
نرى هنا أيضاً كيف أن وصف الفلسطينيين بـ “الأقلية” لا فائدة منه إلا في ظل اشتراط أن تقتصر إشارتنا للأقلية على من يعيشون بأوراق وتوثيق داخل الحدود الحالية لإسرائيل، وطبعاً هذه الحدود تتوسع دائماً في إطار خطط إسرائيل التوسعية. على جانب، يجب أن أرفض مسألة التفوق الديمغرافي بصفته مبدأ عنصرياً غير ديمقراطي، مع الدفاع عن حقوق الأقليات دون الاقتصار على اعتبار الفلسطينيين مجرد أقلية تعيش داخل الحدود الإسرائيلية. على الجانب الآخر هناك ذلك النضال الدائم ضد “وضعية الأقلية الدائمة” تلك، ومن الواجب ربطه بمعارضة الاحتلال والدفاع عن حقوق اللاجئين، سواء كانوا في الشتات، أو غير قادرين على الحركة في مناطق يحاصرها العتاد العسكري.
ونظراً للتغيرات الديمغرافية في المنطقة، فإن السبيل الوحيد لإنجاز مشروع التفوق الديمغرافي الإسرائيلي، ذلك الواجب الذي كلفت به الصهيونية المعاصرة نفسها؛ هو ادعاء الحق في أراضٍ جديدة وطرد ونزع الملكية من أشخاص آخرين ممن لا أصول يهودية لهم، بالأساس فلسطينيين وبدو.
المدهش أنه في عام 1999 تنبأ إدوارد سعيد بأن التفوق الديمغرافي اليهودي سيختل بحلول عام 2010. لكنه لم يُدخل في حساباته كيف سيتم الاستعانة بقانون العودة من أجل زيادة معدلات الهجرة اليهودية، وكيف أن مصادرات الأراضي الجديدة والحدود الجديدة سوف تغير من الوضع السكاني.
فضلاً عن أن التحويل المستمر لأنصاف المواطنين ممن لهم الحق في الأرض إلى أشخاص يعيشون في كنف الاحتلال، يكشف عن العلاقة بين الفئتين: الشخص الذي يعيش تحت الاحتلال هو مطرود بمعنى من المعاني، لكن ليس بالمعنى الذي نراه في العادة في حالة الطرد إلى المنفى. إلا أن طرد هذا “النصف مواطن” ومصادرة الأرض داخل الحدود المتحركة للدولة الإسرائيلية، يُظهر أن بين “نصف المواطن” – الخاضع للاحتلال الاستعماري – وإنسان المنفى، علاقة ضمنية. فهناك آليات للتحول إلى أشكال أكثر تطرفاً من الاستلاب والطرد، بعضها يبدو أنه طرد داخل الحدود، وعمليات طرد أخرى إلى خارج الحدود، لكن ضمن مناطق خاضعة للسيطرة، ثم فئة ثالثة خارج أي حدود، من ثم في المنفى، لكن من الخطأ افتراض أن المنفى يقتصر على هذه الفئة الأخيرة، بما أننا نرى الدفع تجاه المنفى هو القوة المحركة والغاية الوحيدة من هذه العملية. بالطبع النظر إلى المنفى من هذا المنطلق يحول دون إدراكنا للطبيعة التبادلية لوضع البشر بين المنفى والوطن، إلا أنها حركة ممنهجة في اتجاه واحد، في اتجاه تجريد الإنسان مما يملك.
في الوقت نفسه، من المهم أن نتذكر أن الاستلاب يحدث إستاتيكياً أيضاً، دون حركة. لكن فقط عن طريق “تغير الوضع من هذا إلى ذاك” (مصادرة الأرض، أو الحرمان من الحقوق، إلخ). وبما أن الفلسطينيين في الشتات ينالون جنسيات بلدان أخرى، فإن حركة الاستلاب لا تنتهي بالتجريد التام، لكن في الوقت نفسه فإن التجريد التام (من حيث الانتزاع نهائياً من الأراضي الفلسطينية) يتحقق بنيل جنسيات أخرى وحيازة ممتلكات أخرى في أماكن أخرى من العالم. ويبقى الإحساس بالاستلاب قائماً متمثلاً في ذلك الشعور بالانتماء، ويُنظر إليه على أنه ظاهرة ظلم عالمية، قديمة وجديدة.. كارثة قائمة مستمرة.
ما أحاوله في هذه النقطة من تحليلي هو أن أثبت نقطة بسيطة، مفادها أنه لا يمكننا ببساطة أن نشير للفلسطينيين بصفتهم “أقليات” أو “الخاضعين للاحتلال” أو “المطرودين”، وكأنهم فئات جاهزة واضحة، بما أنه لا توجد طريقة واحدة لتمييزهم عن بعضهم البعض وتوزيعهم على فئات. وهناك قطعاً آليات للتحول من فئة لأخرى، لكن فقط في اتجاه المزيد من “الاستلاب”.
الصهيونية تستند إلى فرضيات عديدة متعارضة، لكن أحدها يمكن وضعه في هذه العبارة: “إسرائيل محكومة بمبادئ السيادة اليهودية، وهي دولة يهودية” ثم فرضية أخرى: “إسرائيل، بما أنها ليست دولة يهودية بالكامل، ولم تكن يوماً كذلك، فعليها النضال من أجل الحفاظ على تفوقها الديمغرافي على الأقليات غير اليهودية”. للحفاظ على التفوق الديمغرافي، تحتاج إلى ثلاث آليات على الأقل: إضفاء طابع الأقلية على الآخرين، الاحتلال، الطرد. في الوقت نفسه عليها أن تسعى باستمرار إلى سد الثغرات القائمة أبداً بين ادعاءها بأنها دولة يهودية، ونضالها من أجل الحفاظ على التفوق الديمغرافي، بما أنها ليست دولة يهودية! قصدي هنا أن هذا التناقض في الفرضيات هو المسئول عن القابلية للتحول في أوضاع الفلسطينيين، بين المنفى وغيره، كما وصفت سلفاً. مشروع الاحتفاظ بالتفوق الديمغرافي اليهودي لا يفترض فحسب الاستمرار في عمليات إضفاء طابع الأقلية على الآخرين وتجريد الآخر من الملكية واستلابه، بما في ذلك مصادرات الأراضي، بل يتطلب أيضاً استمرار الممارسات الاستعمارية المذكورة من أجل بقاء إسرائيل. عليها أن تتكاثر وتتمدد في خططها هذه، أن تبقى ملتزمة بها لفترة لنا أن نصفها بأنها “أبد سياسي”.
بمعنى آخر، قد نفهم هذه الممارسات الاستعمارية على أنها تُلزم إسرائيل بأن تبقى دولة استعمارية ما بقي لها من عمر، وأن تُدخل في سياق مفاهيم الاستعمار القائمة شكلاً جديداً من أشكال “ازدواج القومية”.
ماذا سيكون حال إسرائيل من دون ما طردت واستلبت من سكان؟ من يمكن تسميتهم بـ “السكان المُدمَرين”. ماذا تفعل إسرائيل دون آليات الانتزاع والتجريد التي توظفها، وطقوس الحرب؟ في الواقع، إسرائيل على شكلها الحالي لا يمكنها البقاء دون آليات الانتزاع والتجريد، ليس لها أن تبقى دون أن تدمر نفسها بشكل مستمر! من هنا فإن التهديد الذي تواجهه إسرائيل هو نتاج اعتمادها الأساسي على آليات الانتزاع من الأرض والطرد كي تبقى. المسألة إذن ليست انتزاع الشوائب من إسرائيل على حالها اليوم، أو تنفيذ إصلاحات، بل محاولة تجاوز هيكل أساسي محوري يقوم على الإخضاع بالاستعمار، وهو الهيكل الذي لا غنى عنه من أجل استمرارية إسرائيل.
عندما نسأل إذن: ماذا يبقى من إسرائيل إذا هي لم تُخضع الفلسطينيين لمختلف أشكال الظلم، فنحن نطرح سؤالاً يلقي الضوء على أن إسرائيل كما نعرفها ما كانت لتقوم لها قائمة لولا هذا “الإخضاع”. دون هذا “الإخضاع” يظهر لنا شيء آخر غير إسرائيل، لكن هل هذا معقول؟ أيا كان فهو ليس “دمار الشعب اليهودي”، بل نزع هيكل “السيادة اليهودية” و”المطالبة بالتفوق الديمغرافي”.
هناك أكثر من حجة تُظهر أن الوضع سيصبح أفضل بالنسبة لليهود ولجميع من يسكنون الأرض، فلا تبقى هناك حاجة لتدمير الشعب اليهودي أو الشعب الفلسطيني أو أي شعب آخر!
إلا أنني فيما تبقى لي من وقت سأحاول مطابقة هذا السؤال: ماذا سيبقى من إسرائيل دون إخضاع الفلسطينيين؟ بسؤال آخر طرحه محمود درويش في قصيدة له، وهو: “ماذا سنفعل من دون منفى؟” وكان عنوان القصيدة “من أنا، دون منفى”.
مع اقترابي من هذا السؤال أخيراً، أو: ما معنى أن نواجه المستقبل؟ سأستعين ببعض أفكار إدوارد سعيد السياسية الأخيرة. الفكرة الأولى نجدها في تحول سعيد من حل الدولتين إلى حل الدولة الواحدة في أواخر التسعينيات. الفكرة الثانية تتمثل في جهده الصريح في استحضار التاريخين اليهودي والفلسطيني كوحدة واحدة، لافتاً الانتباه إلى “الطبيعة الشتاتية” للتاريخين. وعلى صلة بالإشكالية الأخيرة، تفكّر في كيف أن الهويتين قد تشكلتا على خلفية علاقتهما بـ “الاغتراب”، الوضع المتحقق بالتشتت، والعيش في وسط هؤلاء الذين لا ينتمون إليهم، عادة على مقربة من “الأرض”، في مزاجات حياتية مشتقة من الاختلاف والاغتراب.
مؤكد أنه لا يعني أن التاريخين متماثلين، كما لا يتعامل مع اليهود والفلسطينيين على أنهما كيان واحد. بل يبدو أنه يتساءل على طول الخط إن كانت هناك “موارد” تاريخية متشابهة، متأملاً وضعية “اللاجئ” التي يمكن اشتقاقها من هذين التاريخين المختلفين المتوازيين للنفي والمنفى. إنه يدعو الشعب اليهودي لأن يتذكر وضعه كشعب قوامه المنفى والتجوال واللجوء، كي يستخرج من هذه الحقيقة مبادئ أكثر عمومية تحمي حقوق الأقليات واللاجئين في جميع أنحاء العالم. وعندما أثار إدوارد سعيد هذا السؤال في كتابه الصغير “فرويد والعالم غير الأوروبي” يُركز على حقيقة أن النبي موسى مصري، ومن ثم فهو نموذج على اليهودي الساكن في أراضٍ عربية، أو أنه هو نفسه يهودي عربي. يتخذ إدوارد سعيد موقفاً متميزاً ومختلفاً ضمن كل ما كُتب عن موسى، إذ وضعه في صفوف اللاجئين، مستحضراً ما وصفه بـ “الطبيعة الشتاتية للحياة اليهودية”.
وكأنه يستدعي مدخلاً يهودياً لفكرة تعايش قوميتين في دولة كفيل بأن ينحي جانباً الأشكال الصهيونية للاستعمار الاستيطاني، جالباً لهيكل سياسي للدولة منطلقه الفهم الصحيح لحقوق اللاجئين. يقول إدوارد سعيد: “قوة هذه الفكرة تكمن في أنه يمكن ضمها إلى وأن تنوّر الهويات الأخرى الخاضعة للحصار”. يسأل إن كان علينا الاستمرار في التفكير في هذه الفكرة: “شخصان يعانيان من المنفى والشتات يعيشان معاً، وإن كان الوعي بالمنفى يُفهم على أنه ما سيحقق صورة أفضل من “مؤسفة” لتعايش القوميتين في دولة. لتحقيق هذا، على اليهود الإسرائيليين تنحية “يهوديتهم” جانباً في أي عملية قائمة لاكتساب المواطنة، وكذلك فيما يتعلق بحقوق اللاجئين، وإلا فليتفكروا ببساطة في التاريخ المشترك، حتى يتوصلوا إلى مجموعة من المبادئ كفيلة بإحقاق حقوق جميع اللاجئين والأقليات، مع حشد المعارضة في الوقت نفسه للاحتواء والطرد، مع تفكيك والاستغناء عن السيطرة الاستعمارية والعسكرية على الحدود والموارد الطبيعية والحريات الإنسانية.
دعوني اقترح إذن مبدأ مفاده أنه “لا يعتبر أي حق للاجئين مشروعاً تؤدي ممارسته لإنتاج مجموعات جديدة من منزوعي الجنسية والدولة”.
رغم أنه يبدو أن إدوارد سعيد يعود إلى موارد تاريخية وثقافية بالأساس في معرض إعادته التفكير في تعايش القوميتين في دولة، فمن المهم أن نلاحظ أن أفكاره تتحول في اتجاه المبادئ السياسية والتخييل لكيان سياسي جديد. أحد أسباب كون مشروعات تعايش القوميتين تأتي مصحوبة بصعوبة زرع نبتة “النوايا الحسنة” على الجانبين، هو أن هذه المشروعات تخفق في التعاطي مع مسألة: كيف أدت آليات الاستعمار والاستلاب إلى الاحتياج للبدء في محاولة تعايش القوميتين في المقام الأول! الإطار الذي يحقق “مساواة مصطنعة” بين الإسرائيليين والفلسطينيين في سياق الخطاب العام، من مناقشات وندوات وغير ذلك، وفيه يتكلم كل من الجانبين عن بواعث إحساسه بالظلم، هو إطار يراوغ توازن القوى بين الطرفين ويغرس الافتراض المبدئي الخاطئ الذي يغطي على الهيكل الاستعماري للحُكم الإسرائيلي ويخفيه.
يمكن قول شيء شبيه لهذا، فيما يخص حملات المقاطعة التي لا تستهدف إلا منتجات المستوطنات أو الجامعات المبنية داخل أسوار تلك المستوطنات، أو الرأي القائل بأن استعمار الضفة الغربية فقط هو المشكلة، وأن تحرير الضفة الغربية يعني التخلص من الأسباب وراء المقاطعة. إن السبب وراء اعتبار حركة الدعوة الفلسطينية الموحدة [حركة عالمية داعية للمقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل] تضم بين أهدافها كفالة حقوق الفلسطينيين الذين انتُزعت حقوقهم في عام 1948، وحقوق الفلسطينيين ذوي الجنسية الإسرائيلية، السبب هو أنه من غير الممكن افتراض أن إخضاع الفلسطينيين يقتصر على مسألة الاحتلال وحده. لو افترضنا هذا، فإننا لا نوافق فقط على نسيان مطالبات 1948، ودفن حق العودة، بل نقبل أيضاً أشكال الظلم والعنصرية التي نشهدها داخل حدود إسرائيل. وكأننا لا نرى الصلة بين المطالبة الصهيونية بالتفوق الديمغرافي لليهود وأشكال الاستلاب العديدة التي تؤثر على الفلسطينيين الذين أُجبروا على المنفى: أولئك الذين يتعايشون مع حقوق جزئية داخل الحدود، ومن يعيشون في ظل الاحتلال في الضفة الغربية، أو في سجن غزة المفتوح، أو في مخيمات اللاجئين “الأخرى” في المنطقة.
في الوقت الحاضر هناك أشكال قليلة واعدة من تعايش القوميتين في دولة، وخطر لي فيما تبقي لي من وقت أن أعود إلى سؤالي الأول: كيف أنه قبل 11 عاماً فقط تمكن إدوارد سعيد ومحمود درويش من استشراف مستقبل؟
هناك أسباب تاريخية بالطبع، لكن تظهر لنا أسباب أخرى عندما نفكر في أشكال الخطاب التي استعان بها الاثنان. ولعل أكثر خطاب كاشف للأسباب هو الخطاب الأخير، القصيدة التي وجهها محمود درويش إلى إدوارد سعيد بمناسبة موت الأخير. لعل محمود درويش هو أكثر من اقترب من الكشف عن حالة التعايش القهري بلا عقد أو اتفاق ثنائي واضح. هو لم يتوصل تحديداً إلى “حل” لهذه المشكلة، لكنه أوضح أن حالة “العناق المؤلم” هذه يجب أن تتحول إلى حالة أخرى، وأن المنفى قد يكون خارطة طريق للمستقبل.
في قصيدته لإدوارد سعيد لمّا مات “طباق (عن إدوارد سعيد)” يدوّن محمود درويش حواراً بينهما: “أما أنا، فحنيني صراع/على حاضر يمسك الغد من خصيتيه”، وقال أيضاً، والكلام على لسان إدوارد سعيد:
إذا مُتّ قبلك
أوصيك بالمستحيل!
سألت: هل المستحيل بعيد؟
فقال: على بُعد جيل
سألتُ: وإن مُتّ قبلك؟
قال: أعزّي جبال الجليل
وأكتبُ: “ليس الجمالي إلا
بلوغ الملائم”. والآن، لا تنس:
إن مُتّ قبلك أوصيك بالمستحيل!
في هذا الصوت المفترض أنه لإدوارد سعيد، لا يبقى لدرويش إلا المستحيل، ويتكرر “المستحيل” مرتين وثلاث مرات، وكأنه ميراث من السعي للوصول إلى ذروة الاتفاق، الاجتماع على نقطة اتفاق. ما هي هذه المهمة؟ وإن كانت مستحيلة فكيف لدرويش أن يتبناها وكأنها مهمته؟ الاستحالة تُذكر مرة تلو الأخرى على مدار سطور القصيدة، إنها استحالة تحديد المكان، أن يكون للمرء لغته. ها أنا أقرأ مرة أخرى من القصيدة، سعيد يكلم درويش:
أنا من هناك. أنا من هنا
ولست هناك، ولست هنا
ليس اسمان يلتقيان ويفترقان…
ولي لغتان، نسيت بأيهما
كنت أحلم
ثم في موطن آخر من القصيدة يطرح درويش على سعيد سؤال الهوية، فيحوّل سعيد السؤال على مسار إشكالية المنفى، يقول:
والهوية؟ قلت
فقال: دفاع عن الذات…
إن الهوية بنت ولادة لكنها
في النهاية إبداع صاحبها، لا
وراثة ماض. أنا المتعدد… في
داخلي خارجي المتجدد. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدربت قلبي على أن
يُربي هناك غزالة الكناية…
فأحمل بلادك إذا ذهبت وكن
نرجسياً إذا لزم الأمر
منفى هو العالم الخارجي
ومنفى هو العالم الباطني
فمن أنت بينهما؟
قوة القصيدة “الطباقية” تدور حول صوتين، الصوت الذي يسأل به درويش عن إحساس إدوارد سعيد عندما عاد إلى وطنه في القدس، هل كان خائفاً؟ فيرد صوت سعيد:
لا أستطيع لقاء الخسارة وجهاً
لوجه. وقفت على الباب كالمتسول.
هل أطلب الإذن من غرباء
ينامون فوق سريري أنا…
إنه في الحي، بل داخل البيت حتى، لكنه ما زال في المنفى، وكأن المنفى خارجي وداخلي في نفس الوقت. أو أن المنفى يحدّ من استقرارية التمييز والاختلاف بين الداخل والخارج. المنفى داخل وخارج الحدود، بما أن المرء يشعر وكأنه ما زال خارج الحدود وهو في الداخل، ثم ورغم أنه في الخارج، يبقى في الداخل.
محمود درويش يضع الشعر على لسان إدوارد سعيد، يغذيه بكلماته، ثم يحول سعيد ليواجه القراء، ومن ثم يغذينا بدورنا بالكلمات. لكن صوت سعيد هنا هو الذي يقول:
القصيدة قد تستضيف
الخسارة خيطاً من الضوء يلمع
في قلب جيتارة…
ثم وكأنه يفسر ما قاله:
فليس الجمالي إلا حضور الحقيقي في
الشكل/
في عالم لا سماء له، تصبح
الأرض هاوية. والقصيدة إحدى
هِبات الرياح
يلي هذا سلسلة من التحذيرات:
لا تصف ما ترى الكاميرا من
جروحك. واصرخ لتسمع نفسك
واصرخ لتعلم أنك ما زلت حياً،
وحياً، وأن الحياة على هذه الأرض
ممكنة…
من الصعب عليّ أن استقرء هذا التحول الأخير: “واصرخ”. أهذا أمر أو توصية؟ أو أن الصوت يُطلق نهياً: “لا تصف ما ترى الكاميرا من جروحك واصرخ لتسمع نفسك”. أم أن حرف العطف هنا “و” هو نقطة ارتكاز تذكرك بأنك كمتلقي عليك ألا تصف ما تراه الكاميرا؟ وهي قد رأته فعلاً. وأن تصرخ فتفعل شيئاً ليس بوسع الكاميرا أن تفعله؟
تشعر بالوقوع “طباقياً” بين القراءتين، فتتساءل إن كان “الطباق” هو الشكل الشعري لتحقيق المهمة المستحيلة، أن تنقسم إلى اثنين. وتتكرر المعضلة مع تكرار حرف العطف “و”: “واصرخ لتعلم أنك ما زلت حياً” أنفهم من هذا السطر الأمر بالصراخ؟ لكن يبدو القصد أنه بدلاً من كون العطف ممكناً، فإن السطور بينها اتصال منطقي، لكنه ليس تراتبياً يؤدي السطر إلى التالي عليه. النهاية تجمع جملتين معاً، يبدو أنهما لا تتفقان على أي شكل من أشكال التواصل. إنها متتالية خطية، تدفع بيدها أفق المجاز إلى أبعد وأبعد. دعونا نتابع ولنر إلام نصل. النهاية التي وصلت إليها هذه الحركة غير التراتبية: “واصرخ لتسمع نفسك واصرخ لتعلم أنك ما زلت حياً، وحياً، وأن الحياة على هذه الأرض ممكنة”.
ثم في السطر التالي:
فاخترع أملاً للكلام
بتكر جهة أو سراباً يُطيل الرجاء.
وغن، فإن الجمالي حرية/
بنهاية السطر الأخير وكأننا نسينا الصرخة، أو كأن الصرخة تحولت إلى أغنية، ثم ندخل إلى “الجمالي”. الصرخة تستحيل أغنية. نصل إليها من خلال سلسلة من الاقترانات، هي دائماً أقل من سببية.. الحركة مجازية. وفي القصيدة نفسها يكتب درويش:
كان المجاز ينام على ضفة النهر،
لولا التلوث،
لاحتضن الضفة الثانية
يا لهذا الكلام! ليس فقط لأن المجاز يُشخص، ولن أكثر في الكلام فأنا ضيفة قسم الأدب المقارن في هذه الجامعة! لكن المجاز، وياللدهشة، ينام وحيداً على ضفة النهر، غير قادر على التوصل للعلاقات التي لا تتحقق إلا بالتواصل والتقارب، فهكذا يُعرَف المجاز. على كل حال يُرينا المجاز كيف ننتقل من شيء إلى آخر لا علاقة للأول بالثاني على ما يبدو. وفي هذا السيناريو لا يتحقق عبور ذلك النهر الذي أصابه التلوث.. سموم كثيرة تحول دون التواصل، لولا التلوث، لكان تواصلاً مريحاً.
دعونا نعود إلى ما قاله درويش، أن الصراخ يتحول إلى أغنية، ندخل معها إلى منطقة جمالية، تُصبح موازية للحرية. كيف نفهم الجمالي هنا؟ قدم أمثلة عديدة، منها أن بإمكان المرء اختراع أمل للكلام، ابتكار جهة أو سراب يُطيل الرجاء، ويقول لنا أن نغني لأن الأغنية مرتبطة بالجمالي، وهناك على هذا الطريق تأتي الحرية.
ثم نرى سلسلة من الكلمات وكأنها مظاهر اختراع الأمل للكلام:
أقول: الحياة التي لا تُعرّف إلا
بضد هو الموت… ليست حياة!
ثم وكأن القصيدة تتحول من جديد. وكأن الصوت يأتي من اللامكان وزمن الكلام يبقى غير معروف. ثم يقول، والقائل هنا إدوارد سعيد:
سنحيا، ولو تركتنا الحياة
إلى شأننا. فلنكن سادة الكلمات التي
سوف تجعل قراءها خالدين
هذه الفقرة تجبرنا على التوقف، بما أن سعيد رحل، لكن ها هو هنا في قصيدة درويش يتكلم في هذا الحاضر، وكأنه خُلّد في الكلمات، ويلقي بثقة كلمته وباسمه وفي الوقت نفسه بصوت المتعدد.. تعدد فلسطين. “سنحيا”، الجمع هنا هو الفلسطينيين، لكنه أيضاً يعود على سعيد الذي يعيش في الحاضر الذي يمدّه به درويش… في زمن المضارع الممتد. أهو صوت سعيد الذي يحقق له الحياة في الحاضر؟ أم أنه صوت درويش؟ أم أن الوجود في الحاضر يتحقق لأننا لا نعرف صوت من هذا؟ وصوت مَن هو صوت درويش؟ وأي صوت هو صوت المتلقي أو صوت كل فلسطيني؟ هذا الإيقاع “الطباقي” ينقل المتلقي إلى نهره، لكن درويش، الذي كان ما زال على قيد الحياة، هو الذي يمنح الحياة لإدوارد سعيد.
يبدو أن هذا الفعل يتحقق من خلال مخاطبته، وأن يحمل سعيد على مخاطبة درويش، لكن أيضاً من خلال مخاطبة الجميع. كيف يمنح هذا الكلام الحياة أو يخترع الأمل؟ لأن النكبة لم تكف عن الحدوث، ولم تستقر في أروقة التاريخ. ثم يكتب درويش:
لا أنا، أو هو
ولكنه قارئ يتساءل عما
يقول لنا الشعر في زمن الكارثة؟
لنا أن نضيف السؤال: ما علاقة بوح الشعر بفتح مستقبل يتجاوز الكارثة؟ لعل بطرحنا هذا السؤال ما زلنا نتعقب حركة الصرخة في القصيدة. ألهذا علاقة بالمهمة المستحيلة التي قيل إن سعيد تركها لدرويش؟ رأينا سلفاً أنه لم يكن من الواضح إن كانت الصرخة شيئاً يجب فعله أو الامتناع عنه، ثم يبدو أن ما خرجت به الصرخة هو أغنية، ثم الجمالي الذي استحال حرية. لكن لعل من أجل فهم المهمة المستحيلة علينا أن نعود إلى: “واصرخ لتعلم أنك ما زلت حياً، وحياً، وأن الحياة على هذه الأرض ممكنة”. يوضح لنا سعيد ابن القصيدة أن المهمة ليست جعل المستحيل ممكناً، فوصيته هي المستحيل: “إذا مُت قبلك أوصيك بالمستحيل” ثم وبصوت يحمل أصداء كافكا يسأل درويش: “هل المستحيل بعيد؟” فيرد صوت سعيد: “على بُعد جيل”. بالطبع حقنا هنا أن نسأل إن كان هذا هو الممكن أو المستحيل بما أنه على بُعد جيل، إذن ربما هو ممكن لكن ليس ممكناً لنا. كيف لنا إذن أن نفهم “المستحيل”؟ أهو الحياة التي لا يعرفها الموت بل أفق لحياة؟ هل سعيد مُنح فرصة شعرية لأن يعيش، منحها له درويش حتى تصبح الحياة الفلسطينية ممكنة؟ أهذا هو ما حدث عندما أشار درويش إلى سعيد في حاضر مستحيل؟ فحتى هنا بمناسبة موته يقول: سنحيا… ليس هذا حكي لوقائع الماضي، وليس كلام المتفائلين. قال: سنحيا، حُمل سعيد على قول هذه الكلمة الآن في هذا الحاضر، يقولها لكل فلسطيني ولجميع الفلسطينيين بصوت يمتد عبر الزمن. حياة سعيد إذن متصلة بحياة فلسطين، وتظهر التعددية لا تحدها حصون أو خنادق.
هذه الحياة ممكنة طبقاً لكلمات سعيد حتى ولو في دنيا القصيدة. ربما هنا كلمة سعيد في زمن المضارع الذي لم يعد سعيد حياً فيه تجعل حياة سعيد ممكنة ما زالت. على تماس بهذا التخليد لسعيد، تأتي فكرة أنه إذا كف عن الكلام فسوف يكف الفلسطينيون عن الحياة. الغريب أن حياة درويش هي التي جاءت بسعيد إلى هنا رغم أنه يتكلم في زمن الحاضر من اللامكان، ودون إحساس محدد بالزمن وإن كان حاضراً.
تم اختراع زمن جديد للأفعال، في اللغة، هنا، أن يتكلم سعيد بعد أن أصبح غير قادراً على الكلام، مُقدماً الحياة الجمعية لشعبه فيما وراء زمن الكارثة إلى زمن آخر. هذه القصيدة إذن تخترع رجاء للكلام، وربما أيضاً بقدرتها على التنبؤ بـ “سنحيا” هي إعلان للرجاء، لكن بثقة غير مفهومة، نظراً لكل تهديدات الحياة القائمة، والتآكل البطيء الواثق للحياة اليومية تحت الاحتلال. ثم هناك ثقة ورجاء نستشعرها، عندما يقول سعيد: “فلنكن سادة الكلمات التي سوف تجعل قراءها خالدين”.
درويش في مهمة مستحيلة، لكن عليه أن ينجزها، أهي أن يأتي بالكلمات على لسان سعيد في هذا الحاضر؟ لكنه أيضاً يطلب من كل فلسطيني في الداخل والخارج أن يقرأ سعيد أو درويش لاستشراف طريق لعيش المستحيل، الذي هو ربما العيش خارج تهديد الموت؟ أم أن الموت مشكلة وجودية أصغر من الهواء المسمم لكل يوم؟ التوغلات والغزو المفاجئ؟ التدمير المتوقع؟ أعمال الطرد؟.. والاحتواء؟
إذن في القصيدة، درويش يمنح الحياة لسعيد الذي يمنح الحياة لكل الفلسطينيين. وهو هذا العمل المستحيل الذي يُحرك القصيدة نحو ختامها، وختام كلمتي أيضاً.
السطور الأخيرة هي وداع، ونتوقع أنها وداع لسعيد، لكن ما كتبه درويش هو ببساطة:
وداعاً
وداعاً لشعر الألم
التحية المقدمة لسعيد تنتهي بوداع شعر الألم، بما أنه في هذه القصيدة الطباقية، تتحول الصرخة إلى أغنية، والأغنية مهداة لسعيد، الذي تركها لدرويش، ولقراءه أيضاً، موصياً بالمستحيل. وهكذا تصبح القصيدة هي التنفيذ لهذه الوصية والطلب. إذا كان للمرء أن يحقق أمنية سعيد الأخيرة، فإن شعر الألم سيهزمه الشعر الذي يحقق المستحيل. وصية من هي؟ لا هي وصية درويش حصراً ولا وصية سعيد، لكن وصية الشعب الفلسطيني، الذي أصبح وعلى حد تعبير القصيدة، القراء، مع اقتحام تلك الحياة المستحيلة والحرية من خلال “الجمالي”. والشكل الجمالي هو خطاب، خطاب يستفز القراء، يطالبهم بالحركة، بالكلام والاختراع وتنفيذ وصية المستحيل، الذي ليس فقط مستقبل آخر أو كارثة دائمة، بل تجاوز أفق الكارثة… أي المستحيل الذي يصبح ممكناً في المستقبل.
قد يتمنى المرء أن تصبح القصيدة وطناً تضع حداً للمنفى، لكن القصيدة ليست مكاناً وحدودها ليست مستحكمة الغلق، وكأنها يوتوبيا تفتح الأفق أمام التعددية. تدعو القصيدة سعيد ليقيم في سطورها، لكنها أيضاً تدعو الشعب إليها في ظل أوضاع يستحيل معها تقرير المصير. لنا إذن أن نقول أن القصيدة تفتح الهوية على التعددية، وليس على قلعة أو خندق، على حد تعبير درويش في قصيدة أخرى.
عندما سأل درويش في عام 1999: ماذا سنفعل من دون منفى.. في القصيدة التي تحمل ذلك العنوان، كان يطرح السؤال على الآخرين، لكن يطرحه أيضاً على الأرض، وعلى الزمن. فما معنى أن يعيش المرء في زمن لا فكرة فيه تتجاوز المنفى؟ الغريبة التي يوجه إليها القصيدة هو شخص آخر لكنها أيضاً نفسه. يبدو أن المسألة متعلقة في الوقت نفسه بقضية تعايش القوميتين استناداً إلى التخلي عن أسطورة الأمة:
يا غريبة! ماذا سنصنع في ما تبقى لنا
من هدوء… وقيلولة بين أسطورتين؟
ولا شيء يحملنا: لا الطريق ولا البيت
ها هو درويش مُطلق مع الغريبة في برية أراضٍ مجهولة، ويشير في موضع آخر إلى القصيدة نفسها كمكان للمنفى: “ماذا سأفعل من دون منفى؟” السؤال لا يخرج علينا باتجاه محدد، بل بخريطة سياسية جديدة. درويش يستفز سعيد في “طباقه”: “يقول: أنا من هناك. أنا من هنا/ولست هناك، ولست هنا”. من القادر على معرفة قائل هذه السطور؟ ذلك الواقع داخل حدود إسرائيل؟ طبعاً. الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة؟ طبعاً. من هم في مخيمات اللاجئين في جنوب لبنان؟ أجل. المنفى هو الانفصال، لكن من المنفى تأتي التحالفات، ليس في المكان، بل في مكان لم يتحقق بعد، في المكان المستحيل للـ “ما لم يتحقق بعد”… شكراً لكم.