هانا آرنت
ترجمة: عمرو خيري
هانا آرنت Hannah Arendt (1906 – 1975) هي مُنظرة سياسية ألمانية أمريكية والتالي هو مُجتزأ من مقالها المطول “عن العنف”، وفيه تحلل طبيعة العنف وأسبابه وأهميته في النصف الثاني من القرن العشرين، كما تحلل العلاقة بين الحرب والسياسة والعنف والسلطة/القوة.
إن العنف لكونه أداتياً بطبيعته، يُعد عقلانياً بقدر ما هو فعال في وصوله إلى غاية لابد أن تُبرره. وبما أننا عندما نقوم بفعل فنحن لا نعرف أبداً بأي قدر من اليقين بالتبعات التي سيؤدي إليها ما نفعله؛ فإن العنف يبقى عقلانياً فقط إذا كان يسعى لتحقيق أهداف قصيرة الأجل. العنف لا يساعد قضية، ولا هو يساعد “التاريخ” أو “الثورة”، لكن الحق أنه يمكن أن يكون وسيلة لإضفاء الطابع الدراماتيكي على المظالم والشكاوى وأن يقدمها للجمهور العام. كما قال كونور كروز أوبراين فإن “العنف يحتاج أحياناً إلى صوت الاعتدال حتى يُسمع”. صحيح.. العنف – على النقيض مما يخبرنا دعاته – سلاح أنجع للإصلاحيين لا الثوريين. (شجب الماركسيين العارم للعنف لم ينبع من دوافع إنسانية، إنما من وعيهم بأن الثورات ليست نتاجاً للمؤامرات والأعمال العنفية). ما كانت فرنسا لتصدر أكثر قوانينها الإصلاحية راديكالية منذ عهد نابوليون، لتغير بموجبه نظامها التعليمي العتيق، لولا المظاهرات العنيفة التي نظمها الطلاب الفرنسيون [في مايو/أيار 1968]، وما كان أحد ليحلم بأن تستجيب جامعة كولومبيا لدعوات الإصلاح لولا المظاهرات العنيفة أثناء فصل الربيع الدراسي [في 1968].
وعلى ذلك، فإن خطر ممارسة العنف (حتى إذا تحرك – العنف – عن وعي في إطار غير متطرف لتحقيق أهداف قصيرة الأجل) هو دائماً خطر أن تكون الوسيلة متجاوزة للغاية. إذا لم تتحقق الأهداف سريعاً؛ فلن تقتصر النتيجة على الهزيمة فحسب، إنما أيضاً على دخول فعل العنف إلى الجسد السياسي بأكمله. “الفعل” لا رجعة عنه، والعودة إلى الحالة التي كانت قائمة مسألة غير مُرجحة الحدوث دائماً من بعد الهزيمة. ممارسة العنف، مثل أي فعل، تغير العالم، على أن التغيير الأرجح في حالة ممارسة العنف هو عالم أكثر عنفاً.
وأخيراً، كلما زادت بيروقراطية الحياة العامة، زاد الانجذاب إلى العنف. في البيروقراطية تامة الأركان لا يوجد أحد يمكن للمرء أن يتجادل معه، أو أي شخص يمثل رمزاً تعلق عليه المظالم، أو تُمارس عليه ضغوط القوة. إن البيروقراطية هي النسق الحكومي الذي يُحرم فيه الجميع من الحرية السياسية، ومن قوة الفعل. إذ أن حُكم “اللاأحد” هو ليس بحُكم، وحيثما كان الجميع متساوون في قلة الحيلة/القوة يصبح لدينا طغياناً بلا طاغية. السمة الأهم في حركات التمرد الطلابية في شتى أنحاء العالم هي أنها موجهة أينما وُجدت إلى البيروقراطية الحاكمة. هذا يفسر ما يبدو مقلقاً هكذا من النظرة الأولى؛ أن حركات التمرد في “الشرق” تطالب بحرية التعبير والفكر التي يقول عنها متمردو “الغرب” الشباب أنهم يحتقرونها لكونها غير ذات أهمية. نجحت ماكينات الأحزاب العملاقة في كل مكان في التشويش التام على صوت المواطنين، حتى في الدول التي ما زالت حرية التعبير والتنظيم فيها سليمة لم تُمس.
المعارضون والمقاومون في “الشرق” يطالبون بحرية التعبير والفكر كشروط مسبقة للعمل السياسي. المتمردون في “الغرب” يعيشون في ظل ظروف لم تعد فيها هذه الحريات عينها تفتح قنوات الفعل، أو قنوات لممارسة الحرية بشكل حقيقي. إن تحول الحكومات إلى إدارات، وتحول الجمهوريات إلى بيروقراطيات، وما صاحب هذا من انكماش كارثي أصاب المجال العام، هو أمر له تاريخ معقد على امتداد العصر الحديث. ولقد تسارعت وتيرة هذه العملية كثيراً خلال السنوات المائة الماضية عن طريق صعود البيروقراطيات الحزبية.
إن مَلَكَة الفعل هي التي تجعل الإنسان كائناً سياسياً؛ فهي تمكّنه من الالتقاء بنظرائه والعمل بشكل موحد وبلوغ الأهداف وتحقيق الغايات التي ما كانت لتدخل إلى عقله – ناهيك عن أن تصبح مما يرغبه فؤاده – لولا تلك الهبة التي وُهبها: أن يرنو الإنسان إلى شيء جديد. إن كل خواص الإبداع التي تُعزى إلى “الحياة” في “استعراضات” العنف والقوة، تعود في واقع الأمر إلى مَلَكَة الفعل. وأعتقد أنه من الممكن إثبات أن ليس ثمة قدرة إنسانية أخرى كابدت قدر ما كابدته هذه الملكة – أي الفعل – على يد “التقدم” في العصر الحديث.
إذ أن التقدم، كما جُلبنا على فهمه، يعني النمو، وهو عملية لا هوادة فيها من المزيد والمزيد، من الأكبر والأكبر. كلما كبر تعداد سكان الدولة، وأشيائها المادية وممتلكاتها، زاد حجم احتياجها للإدارة، ومع الإدارة تأتي سلطة “المديرين” مجهولة الصاحب. كتب بافل كوهوت، الكاتب التشيكي، في ذروة تحقق تجربة الحرية التشيكية، مُعرًّفاً “المواطن الحُر” بأنه “المواطن الشريك في الحُكم”. لم يقصد شيئاً غير “الديمقراطية التشاركية” التي سمعنا عنها كثيراً في “الغرب” خلال السنوات القليلة الماضية. أضاف كوهوت أن العالم على حاله الآن في أشد الحاجة إلى “نموذج جديد” إذا “كنا لا نريد للسنوات الألف التالية أن تصبح عهد القرود السوبر-متحضرة”.
هذا النموذج الجديد لن تجلبه ممارسة العنف، وإن كنت أميل للتفكير في أن الكثير مما يحف بالعنف – حالياً – من تمجيد يرجع السبب فيه إلى الإحباط البالغ لملكة الفعل في عالمنا الحديث وتثبيط همتها. من الصحيح وبكل بساطة أن أعمال الشغب في الجيتوهات والتمردات داخل حرم الجامعات “تجعل الناس يشعرون بأنهم “يفعلون” معاً بشكل قلما أتيح لهم”. إننا لا نعرف إذا كانت هذه الوقائع بداية لشيء جديد – “نموذج جديد” – أو هي سكرات موت مَلَكَة يوشك الجنس البشري على خسارتها. إن الوضع على حاله الآن، ونحن نرى كيف ترزح القوى العظمى تحت عبء وزن ضخامتها الرهيب، يشير إلى أنه إذا كان للنموذج الجديد أن يظهر – لو كان سيظهر من الأساس – فلن يحدث هذا إلا في دولة صغيرة، أو في قطاعات صغيرة واضحة التعريف في مجتمعات القوى العظمى.
إن عمليات التحلل التي أصبحت ظاهرة في السنوات الأخيرة (من تحلل للعديد من الخدمات العامة والتعليم المدرسي وقطاع الشرطة وتوصيل البريد والنقل والمواصلات ومعدلات الوفيات في حوادث الطرق ومشكلات المرور في المدن) ترتبط بكل ما هو مُصمم لخدمة المجتمعات. الضخامة قدرها الحتمي هو أن تكون هشة ضعيفة، وفي حين لا يمكن لأحد أن يؤكد متى أو أين سنصل إلى نقطة الانهيار؛ فإن بإمكاننا ملاحظة كيف تُدمَر القوة والمناعة من الداخل. هو تسريب، نقطة وراء نقطة، من مؤسساتنا. والأمر نفسه، في رأيي، صحيح في مختلف النظم الحزبية: الديكتاتوريات الحزبية في “الشرق” ونظم الحزبين في إنجلترا والولايات المتحدة، والنظم متعددة الأحزاب في أوروبا.. هي جميعاً يُفترض فيها أن تخدم الاحتياجات السياسية للمجتمعات الحديثة، أن تجعل الحكومة التمثيلية ممكنة في ظروف يستحيل فيها تحقق الديمقراطية المباشرة لأن “الحجرة لن تسع الجميع” (جون سيلدن).
أضف إلى هذا أن صعود القومية في شتى أنحاء العالم هي ظاهرة تُفهم عادة بصفتها تأرجح عالمي نحو اليمين، وهي الظاهرة التي بلغت نقطة قدرتها على تهديد الدول الأمم الأقدم والأكثر رسوخاً. الأسكتلنديون والويلزيون، البريتون والبروفينسال، الجماعات الإثنية التي كانت اصطفافها بنجاح مطلباً سابقاً على صعود الدولة الأمة، ها هي تتحول نحو النزوع للانفصال في تمردات على الحكومات المركزية في لندن وباريس.
مرة أخرى، فأنا لا أعرف إلى أين تأخذنا هذه التطورات، لكن يمكن أن نرى تصدعات في بنية سلطة كل الدول باستثناء الدول الصغيرة، تصدعات تنفتح وتتسع. ونحن نعرف، أو يجب أن نعرف، أن كل تناقص في القوة هو دعوة مفتوحة للعنف، ولو فقط بسبب أن من يشغلون مناصب السلطة ويشعرون بها تتسرب من بين أيديهم دائماً ما وجدوا صعوبة في مقاومة غواية استبدالها بالعنف.